afterheader desktop

afterheader desktop

after Header Mobile

after Header Mobile

جدل العمل والتفكير من داخل النسق ومن خارجه

الداخلة نيوز: عبدالرحيم شهبي

النسق السياسي المغربي، يرسم حدوده بحدود الدستور الممنوح، والقوانين المكملة له، شرحا أوتأويلا أوتفصيلا، وكما يضيق على المكونات والمؤسسات والأفراد، يتسع لأصحاب النفوذ والتحكم، فيتم تجاوز حدوده أو تعطيل بنوده باسم التعليمات، فهو نسق تتداخل فيه القوانين مع الأعراف والتقاليد، وتتعايش فيه الحداثة مع القدامة، والسياسة مع القداسة، ومفهوم المواطنة مع مفهوم الرعايا وخدام الدولة.. 

ولذلك تغيب عنه العقلانية السياسية، فمن يمارس السلطة فهو فوق المحاسبة السياسية، ومن هو معين سيادي ودائم، ومن يخدم السلطة فهو مراقب ومحاسب، ومن هو منتخب هامشي ومؤقت، دوره هو تأثيث المشهد السياسي لا غير!

في ظل هذا النسق يجد الكثير من الفاعلين السياسيين حرجا وضيقا، فبدل أن يكونوا مستقلين، يجدون أنفسهم مجرد قواعد إسناد، مجردين من القرار ولا قدرة لهم حتى على الاقتراح، وبدل أن يكونوا كائنات فقرية لها قدرة على الوقوف والسير على قدمين، يتحولون إلى كائنات رخوية تتدحرج بالأقدام، من هنا يبدأ الفرز السياسي، بين مكونات ترتدي لنفسها الدون، فتعمل من داخل النسق لتحقيق الشرعية القانونية، وتفكر من داخله بلا مشروعية سياسية، أو استقلالية في قراراتها، في شكل تلقي التعليمات أو الإشارات الإيجابية، فتمارس الواقعية بلا أفاق ولا خلفية نضالية،  ويمكن أن نمثل لضحايا النسق عملا  وتفكيرا، بذلك الجندي الذي لما أراد أن يعاقبه رئيسه، أمره بأن يخط دائرة ويقف بداخلها، فخط دائرة ضيقة ووضع نفسه داخلها، وبعد برهة من الزمن، وجد دماءه تكاد تتجمد وأطرافه توشك أن تشل، وليس له مساحة يتحرك داخلها، لقد كان  يمكن له أن يخط دائرة أكبر تسمح له بهامش أوسع، بدل أن يخنق نفسه في هذه الدائرة، فإذا كان العمل من داخل النسق مطلوبا أو محمودا حسب السياقات، فإن خنق التفكير داخله هو نهاية النهايات، وهذا ما يمكن تسميته بـ”عقلية الدائرة” التي تعيش معتقلة في دوامة مغلقة.

وهناك مكونات أخرى  تعمل من داخل النسق، ولكن تحافظ على مساحة من التفكير من خارجه، لأن التفكير لا حدود له، والعمل من داخل النسق هو ضرورة مجتمعية قبل أن تكون ضرورة قانونية، أما التفكير فهو اختيار لا قيود عليه، والتفكير من خارج النسق هو الذي يسمح بتطوير وتوسيع مساحته، وإثراء مضامينه.. وهذا ما يمكن تسميته بـ”عقلية السهم” الذي ينطلق بعيدا.

وهناك مكونات أخرى تعمل من خارج النسق وتفكر من خارجه أيضا، وإذا كان التفكير من خارج النسق مطلوبا بل ومحمودا، فإن العمل من خارج النسق يمكن أن يكون مربكا أو محبطا، ولكن هناك ظروف سياسية جائرة، قد تجعله مبررا، وذلك عندما يحيف القانون بالمنع أو الإقصاء والتجريد من كامل أو بعض الحقوق في التعبير والتنظيم، فلا يبقى لدى الكائن السياسي سوى نهج المقاربة النضالية، ليفرض وجوده، ويجبر خصومه بالاقرار بكامل حقوقه السياسية والمدنية، كما أن هناك سياقات تعرف تدفقا حراكيا، لا يمكن حصرها في أسر نسق واطي وضيق، تفكيرا وعملا، لأنها لحظات ثورية تواجه إرثا استبداديا ضخما، وتمثل طفرات تاريخية تسرع المدى النضالي وتطوره، ولا يمكن بحال حصرها في أوردة أو شرايين ضيقة، لنسق مهندس على أساس حفظ الاستقرار، وتحقيق التوازنات السياسية الهشة، بدل الاخلال بهما، لإعادة بناءهما على أسس جديدة عادلة ومنصفة، وإلا عرفت هذه الأوردة أو الشرايين انفجارات كارثية لا تبقي ولا تذر.. فالسياق هنا محدد، ولابد أن يتسع النسق بحسب الحالات وينبسط، ليسمح لحركات التغيير لتبلغ مداها بشكل سلس وسلمي وحضاري، في غياب هاذين المحددين؛ مواجهة الظلم والحيف القانوني بالمنع والاقصاء، وحالات الحراك المجتمعي المتنوعة، لا يكون العمل من خارج النسق والمؤسسات مبررا، لأنه مدعاة للتطرف والتصادم وإشاعة العنف والعنف المضاد والعزلة والهامشية.  

وإذا كان العمل من داخل النسق والتفكير من خارجه، أي امتلاك الاستقلالية السياسية، يعد هو المقاربة الوسطية المطلوبة، فهو مثلا يسمح بالحق في التعبير والتنظيم من داخل المؤسسات، ويسمح بالمطالبة بالاقتراح والاحتجاج والنضال، من أجل تعديل القوانين والدساتير وتطويرها، فإن طرفاه مذمومان، أي التفكير من داخل النسق أو العمل من خارج النسق، لأن التفكير من داخل النسق يعتريه النقص من جانب الانحلال، والعمل من خارج النسق يعتريه النقص من جانب الغلو.

فالقوى التي تفكر من داخل السياق هي قوى محافظة، أفقها السياسي، وتفكيرها الايديولوجي لا يتجاوز سقف الاستقرار، المحكوم برقابة ذاتية، تضيق التفكير وتسييجه وتدينه، وتحوله إلى مطاوعة سياسية تقطع مع الحق في المنازعة السياسية، أو الحق في الاختلاف السياسي، بما تعني الاقرار والاذعان، والادعاء بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان!.. وتتذرع بسياسة تزاحم من أجل التموقع والاستفادة من الريع السياسي والاقتصادي، ولا تتدافع لأن التدافع تجاوز وتداول وتصحيح وتغيير، وتعتبر كل تفكير بتغيير النظم والدساتير هو خروج ثوري عن النسق، وتطالب دعاته بشكل جاهل وساذج، بمغادرة الميادين السياسية، والتوجه نحو الجبال لممارسة العنف الثوري، وكأن التغيير لا يأتي إلا من خلال الدماء وفوق الأشلاء! 

أما القوى التي تعمل من خارج النسق السياسي، اختيارا لا اضطرارا ولا استجابة لسياقات حراكية ثورية، فهي قوى ثورجية وعدمية، تتغذى من فكر شمولي وعقليات وثوقية مستاءة ويائسة، وتحكمها بنية هرمية وثوقية وكاريزمية لا تؤمن بالمؤسسات، ولا تسعى إلى تعاقدات أو تفاهمات، وتستبد بها النرجسية الذاتية، وتبخيس الأخر وشيطنته، والاحتماء باليوتوبيا والحلم.

فالعمل من داخل النسق هو الاختيار الأفضل، ولا يلجأ إلى العمل من خارجه إلا في ظروف الاستثناء والقهر وحالات الحراك المجتمعي، حينما يبلغ الواقع السياسي والاجتماعي مدى لا يطاق، ويصادر الحقوق والحريات، والتفكير من خارج النسق هو المقاربة الفضلى، ولا يبرر بحال خنق التفكير داخل النسق، لأن التفكير لا حدود له ولا قيود عليه من خارجه.

ومقاربة العمل من داخل النسق والتفكير من خارجه، تسمح بجدل النسق والسياق، فهي تجمع بين الحسنيين، النضال من داخل المؤسسات برفع وتيرة الايقاعات السياسية، بالمطالبة بتغيير الدساتير وتطوير النظم وعقلنة العملية السياسية، وتستجيب أيضا للحراك المجتمعي واحتجاجاته من خارج النسق، وتساهم في ترشيده وتوجيهه حتى لا ينزاح إلى حالات الغموض، أو يرتاد المجاهيل والأدغال السياسية التي قد تأتي على الأخضر واليابس.

الجديدة في 10/10/2016


شاهد أيضا