الأسماك السطحية تختفي من الأطلسي.. أزمة مشتركة تُهدد المغرب وموريتانيا

الداخلة نيوز: غابرييل روبان
في نواذيبو، رئة الصيد البحري في موريتانيا… الأسماك تختفي، فهل المغرب مهدد بالسيناريو ذاته؟
في مدينة نواذيبو، التي تُعد القلب النابض لقطاع الصيد في موريتانيا، تشهد الثروة السمكية تناقصًا مقلقًا. ففي تقرير نُشر بتاريخ 31 يوليوز 2025، رسمت صحيفة لوموند الفرنسية صورة قاتمة للوضع، مشيرة إلى أن البلاد تعيش أزمة هيكلية غير مسبوقة في قطاع الصيد، تعود أسبابها إلى سنوات من الاستغلال المفرط والاعتماد المفرط على إنتاج دقيق وزيت السمك.
وقد بلغت الضغوط حدًا دفع بعض الشركات، مثل “Omaurci SA”، إلى تقليص صادراتها من 12,979 طنًا سنة 2020 إلى 5,543 طنًا فقط سنة 2024. والنتيجة: توقف نشاط ثلثي المصانع في نواذيبو، ويواجه القطاع ما يصفه الفاعلون فيه بـ”كارثة بيئية واقتصادية”. هذا التدهور السريع للنموذج الموريتاني يطرح سؤالًا استراتيجيًا على مستوى الساحل الأطلسي لغرب إفريقيا: هل يمكن أن يواجه المغرب، ثاني أقوى فاعل إقليمي في صيد الأسماك السطحية، نفس المصير؟
أزمة موريتانيا… إنذار للمغرب
في ظل تصاعد التوترات المرتبطة بصيد السردين في موانئ مغربية عدة، تمثل الأزمة الموريتانية إنذارًا إقليميًا جديًا. فهي تسلط الضوء على خطورة العوامل الخارجية، وفي مقدمتها الاستغلال المفرط للمخزونات السمكية المشتركة بين موريتانيا والمغرب. وكما جاء في تحقيق لوموند الأخير حول “نهب المياه الموريتانية”، فإن الضغط المتزايد على الموارد البحرية لا يعترف بالحدود، ويؤدي إلى تداعيات بيئية واقتصادية متسلسلة تهدد كامل المنطقة.
في الواقع، بدأت السواحل المغربية تُظهر بوادر مقلقة مشابهة. ففي الداخلة، المركز الحيوي لتصنيع الأسماك، أفادت مصادر محلية بانخفاض كميات السردين المفرغة إلى النصف تقريبًا، إلى جانب تراجع واضح في الحجم المتوسط للأسماك المصطادة. هذه الظاهرة لم تعد مجرد اضطراب ظرفي، بل باتت تعكس ضغطًا متزايدًا على المخزون السمكي وتطرح تساؤلات جدية حول استدامة النموذج القائم.
وفقًا لأحد الخبراء السابقين في المعهد الوطني للبحث في الصيد البحري (INRH)، فإن الأرقام، رغم عدم نشرها رسميًا، تشير إلى تفاقم الوضع منذ يونيو 2025. فحسب المصدر ذاته، سجلت موانئ المملكة انخفاضًا عامًّا بنسبة 20% في حجم التفريغ مقارنة بسنة 2024. أما السردين، فقد شهد تراجعًا في المصيد بنسبة تقارب الثلث. وفي مناطق الجنوب، العمود الفقري للقطاع، تُعد الأرقام أكثر إثارة للقلق: انخفاض عام يقارب 50%، وتراجع حاد في مصيد السردين يصل إلى 70%، أي أقل من العتبة الحرجة.
ويحذر أحد الفاعلين في القطاع قائلًا: “إذا استمرت هذه الاتجاهات، فإن منظومة صناعية كاملة قد تنهار”. فالأمر لا يتعلق فقط بمردودية اقتصادية، بل بكيان صناعي ترسخ لعقود في مناطق استراتيجية، بات اليوم مهددًا في جوهره. الأعمق من ذلك، أن التوازن البيئي في الإقليم بدأ يهتز. فعمليات الصيد المكثف في مناطق قريبة من الحدود الجنوبية تقوّض الموارد البحرية المغربية وتعرقل الهجرة الطبيعية للأسماك السطحية على طول الساحل الأطلسي، المشترك بين عدة دول: المغرب، موريتانيا، السنغال، غامبيا، غينيا-بيساو. وبالتالي، فإن السلسلة البيئية والاقتصادية البحرية برمتها باتت مهددة، ما ينذر بعواقب ممنهجة على الأنظمة البيئية والاقتصادات الساحلية على حد سواء.
المنظومة البحرية المغربية تبحث عن نموذج جديد
“الصيد غير القانوني يشكل نحو 30% من النشاط البحري في المغرب، وهو رقم مقلق”، بهذا التصريح دقت لميا السملالي، رئيسة منظمة Sea Shepherd France، ناقوس الخطر في حوار مع مجلة تيل كيل. إلا أن هذه المعطيات، رغم خطورتها، لا تختزل الأزمة المعقدة التي يمر بها القطاع في المغرب، والتي تتجاوز إشكالية الصيد المفرط.
فرغم صدور مرسوم سنة 2019 لتنظيم مناطق الصيد، لم يُفعَّل بالشكل المطلوب، ما أدى إلى تسلل عدد كبير من السفن بشكل غير مراقب، وزاد من حدة الأزمة الحالية. كما يرى أحد الصناعيين في القطاع أن “المشكلة قد لا تكون في فراغ البحر، بل في غياب تنظيم ومراقبة تتلاءم مع الواقع الميداني”. فالثغرات التنظيمية، وضعف المراقبة على الصيد التقليدي، وغياب معطيات علمية دقيقة، كلها عوامل ساهمت في سوء تدبير الموارد البحرية.
إلى جانب ذلك، لا يزال العمل بنظام “الزونات” – أي توزيع مناطق الصيد حسب الأصناف والمواسم ونوع السفن – شبه غائب على أرض الواقع، رغم الإطار القانوني الموجود. كما أن إجراءات الإغلاق الموسمي والمكاني، التي تهدف إلى حماية المخزون، تظل غير كافية. ويزيد من حدة الوضع النقص الحاد في الموارد البشرية داخل الإدارة، إلى جانب مغادرة عدد من الأطر المؤهلة، خاصة قبيل تعيين كاتب دولة مكلّف بقطاع الصيد البحري سنة 2024.
ومع ذلك، تواصل السلطات المغربية التأكيد على التزامها بالتصدي لهذه التحديات. ففي 29 يونيو 2025، نفت كتابة الدولة المكلفة بالصيد البحري بشكل قاطع التقارير التي تحدثت عن صيد واسع للسردين القاصر (صغير الحجم) من قبل سفن الصيد الساحلي بميناء العيون. وأكد بيان رسمي أن “عمليات مراقبة يومية تُجرى بالتنسيق مع المعهد الوطني للبحث في الصيد البحري”، وأن “أحجام الأسماك المصطادة مطابقة للمعايير المعمول بها”.
أي مستقبل للصناعيين في الجنوب؟
يوفر قطاع الأسماك السطحية عشرات الآلاف من الوظائف المباشرة وغير المباشرة، ويشهد مشاركة متزايدة للنساء في مختلف مراحل سلاسل الإنتاج، مما يجعله ركيزة حيوية للتنمية الاقتصادية في جنوب المملكة. إذ يدرّ هذا النسيج الصناعي رقم معاملات يُقدّر بـ4 مليارات درهم سنويًا، ويُسهم بـ30% من الإنتاج البحري الوطني، أي ما يقارب 400 ألف طن سنويًا، موجهة للاستهلاك المحلي وللأسواق العالمية. وهو أيضًا ركيزة للأمن الغذائي في الأقاليم الجنوبية، وعُنصر مركزي في الاقتصاد الأزرق للمغرب.
إلا أن هذه الدينامية باتت اليوم مهددة، في سياق يتسم بتزايد الضغوط على الموارد البحرية وطرح تساؤلات حول مستقبل النموذج الحالي. وهو ما يعيد إلى الأذهان مضامين الخطاب الملكي الأخير، الذي شدد فيه الملك محمد السادس على أن “لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب بسرعتين”، داعيًا إلى “انطلاقة جديدة نحو تأهيل شامل للمجالات الترابية”، من خلال “جيل جديد من برامج التنمية الترابية” يستند إلى خصوصيات كل منطقة، ويحقق العدالة المجالية.
وفي ظل اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المرتقبة في يونيو 2026، رسم المغرب ملامح الطريق: عدالة مجالية، شمول اقتصادي، وتقليص الفوارق الترابية. ويبقى السؤال المطروح: هل سينخرط جميع الفاعلين في هذا التوجه، ويجعلون من الإنصاف المجالي أولوية في أجنداتهم السياسية؟
غابرييل روبان هو صحفي (Atlantico، Causeur، FigaroVox) ومتخصص في القضايا الجيوسياسية والتجارة الدولية.