الداخلة نيوز: محمد سالم الزاوي
جريدة “الداخلة نيوز” تنفرد بنشر جزء من السيرة الذاتية للمدون الصحراوي و الزميل محمد سالم الزاوي تحت عنوان ذاكرة المعاناة.
لم تكن سعادتي بقدوم جدتي تفوق سعادتي برؤية أمي بشوشة ذلك اليوم ، حتى أنني لم أنظر كثيرا الى جدتي وكان جل إهتمامي منصبا على أمي كيف إنطلقت أسارير وجهها الحزين دائما ..كانت لا تدري ماذا ستفعل بالضبط ، هل تحضر الشاي أم تحضر كساء تفرشه أم تنتظر حتى تملأ عينيها من أمها وتملأ أذنيها من صوتها ..وأنا كنت أملأ حينها جزءا فارغا من ذاكرتي يٌعنى بصور لأمي في حالة إنسانية ملئها السعادة ..لم تكن أمي تتقن كثيرا تصنع الفرح لخبرتي معها فعادة ما تخونها دموع وملامح لا تعرف التقنع خلف الابتسامات، لذلك لم ألتفت الى كلامهما كثيرا ..نعم كان هناك كلاما يفرض علي التفاعل معه خاصة عندما بدأت جدتي في بكاء تبعته حالة وجوم في المكان وخيم صمت رهيب كانت جدتي بين الفينة والاخرى تهمس خلاله : حسبي الله ونعم الوكيل ..!عندها اذكر انني بقيت متسمرا في مكاني أحاول فهم ما يدور بينهما …فسألت جدتي أمي : وهل اخبروك ما الذي حدث بالضبط ؟ حينها علمت أنهما يتحدثان بخصوص والدي وتأكد لي ذلك وأنا أرى أمي وهي تتوجه الي بعينيها الغائرتين وكأنها تريد أن تقول لجدتي ان احمد لازال صغيرا على سماع تلك القصة !
فسارعت امي الى تغيير الموضوع فبدأت تسأل جدتي عن احوالها خلال تلك السنين وهي تعيد تلك الملامح الصادقة على وجهها ، لتعيد لي أنا أيضا تلك المتعة في مشاهدتها بتفاصيل جديدة. كانت جدتي بين الفينة والاخرى تضمني وتبدأ في طرح الاسئلة التي تعلمت الاجابة عليها بسرعة وبإتقان كذلك، وكنت انظر اليها مشدوهة وهي تصرخ اعطوني حقيبتي حتى اعطي لابني هديته ..كنت حينها اجلس في كنف جدتي ولكن عيني متسمرتان نحو أمي وهي تقول موجهة الخطاب الى جدتي : إن أكبر هدية لأحمد هي قدومك في هذه الظروف ..لا أدري حينها ما منعني من القول إن أكبر هدية لأحمد هي تلك الإبتسامة الصادقة على محياك يا أمي الغالية. لا أذكر أني يومها وليلتها خرجت من الخيمة ولا أدري متى خلدت الى النوم كانت السعادة تغمرني لدرجت اني لا اريد ان العب ولا اريد ان آكل ولا أن أنام فاليوم أمي سعيدة والسبب الذي كان يجعلني اقضي اغلب الوقت رفقة اخوتي واصدقائي خارجا او اقضيه نائما لم يعد موجودا وانا اليوم اكتشف صورا من عالم كنت احلم به . كان البرد ذلك الصباح قارسا ، ولكني كنت عازما على ان لا تفوتني تلك الحكايات التي ستدور بين والدتي وجدتي ..استيقظت باكرا على صوت جدتي وهي تهلل بصوتها الحزين الذي اضفى جوا روحانيا دافئا في ذلك الوقت، كانت امي تحضر الافطار وضعت التمر امام جدتي واخذت في إعداد الشاي..جلست كعادتي قرب المجمر متسمرا ..ولكن جلستي يومها لن تطول فقد لفتني أمي بإخبار العائلة والمعارفة بقدوم جدتي من مدينة الداخلة، حملت معي تميرات وذهبت مسرعا أجوب الخيام التي احفظ اماكنها رغم حداثة سني آنذاك. كنت انتقل من خيمة الى خيمة وفي عقلي انتقل من تساؤل الى آخر ! كيف استطاعت جدتي القدوم الينا وسط هذا الزخم من العساكر والنيران ! وما الذي دار بين جدتي وأمي حين اكفهر جو نقاشهما؟ وهل فعلا أن والدي الذي لا اذكر ملمحا من ملامحه لازال يقاتل في ساحات الحروب ؟.
لم تكن الاجابات يومها بتلك الاهمية بقدرما كان مهما عندي ان تواصل امي رسم تلك الابتسامة على شفتيها وان اراها تنعم بذلك الدفء الذي اراها تتلحف فيه بأريحية هذه الايام …كان يوما حافلا عندنا كانت العائلة مجتمعة عندنا ولكنها اليوم بخلاف المرات السابقة تجتمع على صخب الفرح لا كئابة الحزن كما وقع في تلك الليالي الحزينة والمظلمة. وبعد ان بدأت اتعود على الحالة الجديدة وبعد ان بدأت تتسلل الى روحي اريحية نفسية، رأيت امي بملامحها القديمة لم ادري ما اصنع وانا انظر اليها ترمقني في صمت رهيب ..نظرت الى جدتي كانت تخفي ملامحها في انحناءة برأسها آخذة بمسبحة طويلة ..تقدمت الي امي خطوة لا ادري ربما تقدمت انا ثلاث خطوات فقد بدت لي منهارة ولا تقدر على التقدم ضممتها بكل ما اتيت من قوة وكأنني اريد ان اذوب بداخلها كانت كلماتها تخرج كأنها مجروحة او مكسورة : بني احمد !
ستذهب مع جدتك الى مدينة الداخلة ..انها مدينة جميلة ونحن بدورنا سنلحق بكما عما قريب فقط عندما يأتي والدك من الحرب سنلتحق بكما هناك. كانت كلماتها مبهمة وغير مفهومة عندي،استرسلت جدتي في الكلام بعدما غصت ابنتها وجفت الكلمات..كانت هناك خناجر تتعاقب على حنجرتي منعتني من كلام ظل مدفونا هناك ولعله باق، كان صوت سيارة لاندروفر ذلك اليوم مميزا وهي تقترب من خيمتنا وجدتي تطلب مني الاستعداد لشد الرحال ..كان اسوء صمت اتخذته في حياتي ولربما اسوء قرار وافقت عليه!
كانت جدتي تأخذ بيدي وبعباراتها تردد : احكم قلبك ..وهي لا تعلم ان قلبي كان واقفا يبكي على باب الخيمة التفت اليه ذابلا يكاد يقف نبضه. كانت الساعات تمضي على وقع تهليل جدتي واستغفارها وكنت هائما شارد الذهن غصة في حلقي تأبى الزوال..كانت الجدة تتجاذب اطراف الحديث مع السائق واذكر ان المفردات غالبا ماتكون حول فلان استشهد منذ ثلاث ..خمس سنوات واخر مفقود ..وثالث مسجون ..واخبار مشردين ..واسماء لا اعرف دلالاتها لكني عادة ما اسمعها في حوارات الكبار ، بدت الجدود تتراءى لنا من بعيد تجمهرات عشوائية هنا وهناك، حلقات وضوضاء عارمة ، كان السائق يحذر جدتي من مخاطر الحدود ، الامور هناك تلتبس على الشباب فكيف بالمسنين ، السنوات الاولى لوقف اطلاق النار المفروض من قبل الامم المتحدة ، الحديث اليوم عن اختيارات الناس ، الجو العام مليء بالعبثية ، التشنجات ، الفوضى ، الفقر المذقع ،الأوبئة والامراض المنتشرة حالة غريبة في هذه الرقعة مزيج من اللغة العربية واللغة الاسبانية واللهجة الحسانية والدارجة المغربية ، ثقافات تتداخل هنا ربما لاول مرة ..والظاهر ايضا ان هناك تماس كهربائي بين تلك الثقافات وتنافر اكثر منه إلتئام فلا شيئ يلتم بعد الحرب حتى الجروح والكسور تبقى على حالها،كان الناس عموما خائفين وما كان يقال في جلسات العوائل غير ما كان يصرح به ، الاعتقالات والاختطافات على اشدها والتهديد العلني صار شئ عادي في المدينة ..كان نوع من خيبة الامل خاصة للشباب الذي يستعد لبدء حياة في ظروف جديدة ونمط عيش جديد كان يحلم به. لن انسى تلك الصور لاول مرة وانا عائد الى موطني الام الذي بنته لي امي في جلساتها الليلية كانت تسكنني كل ليلة في مدينة من الاحلام… كانت صورة الجيش المغربي يرابط على الحدود أراها لاول مرة كانوا يجمعون الوافدين من الضفة الأخرى كقطعان الغنم ،فيتم فحصهم خوفا من الاسلحة ويتم بعدها حرق ثيابهم خوفا من عدوى محتملة، كانت جدتي وقتها لا تفارقني للحظة لم ارها بذلك الحزم قط ، قضينا خمسة عشر يوما بلياليها متربصين عند حدود موطننا وارض اجدادنا كي يسمح لنا بالدخول كانت الاسئلة السياسية تفرض علي جمع معلومات كثيرة عن الواقع السياسي ، فجميع الاحاديث سياسية ، في بداية تلك المعاناة اذكر جيدا ذلك العسكري المهيب ببذلته العسكرية المرصعة بأقراص نحاسية تعلو كتفيه ، يظهر انه كان يتحكم بزمام الامور هناك ، يظهر ذلك من اهتمام الجميع به هنا ، والحقيقة اني لا ادري ما الذي جعله يهتم لاموري بين الجميع حتى انني ارتبطت به في تلك الفترة وكنت انسى وانا اتحدث معه انه في الصف المقابل واقعيا. كان السي عبد الرحيم وكان هذا اسمه كما كان العساكر ينادونه ليجلس بقرب الجدة ، يخاطبها بصوت لا يخلو من ود واحترام.
كان يحمل معه صورا ويبدأ بعرضها على الجدة :هذه صور بناتي، وهذه زوجتي، لكني لم يكتب لي الله أن أرزق بإبن وقد دخل قلبي إبنك الجميل هذا.
كانت الجدة تبتسم له بخوف مبطن، وتقول، بارك الله فيك وجعلك الله ذخراً لبناتك.
لم تعد الجدة تخفي خوفها كلما تقرب القائد من حفيدها، فأنتلجنسيا العداء التي خلفتها حقبة الحرب كانت تلقي بظلالها على مخيلتها، فكانت تفاتح بعض العائدين المقيمين في الحدود بشكل مؤقت بموضوع إبنها الذي صار يقضي جل وقته رفقة “الكولونيل” المغربي. خشيتها في ذلك زادت كثيراً حين أخبرتها إحدى النسوة العائدات أن الرجل يستطيع تبني حفيدها وأن ينتزعه منها قهراً فمر أسبوع بأكمله وهي تعيش أرق التوهمات والخوف وتقضي معظم اوقاتها في العبادة والدعاء والتوسل بأولياء الله الصالحين.
انتهت فترة الحدود بتراجيديتها وجاء الأمر بالسماح لنا بالدخول ، توجهنا الى مدينة الداخلة المدينة التي قضيت بها معظم حياتي الذهنية رفقة والدتي لذلك لم تكن دهشتي بها بالقدر الذي كان يدهشني حجم العسكر وثكناته وعتاده ، كنت مقبلا على ولوج المدرسة لأول مرة. كانت الحياة الجديدة اصعب نفسيا علي من سابقتها وانكساراتي اكثر وقعا ، فالكلام الذي كنت اسمعه من تلك الجلسات التي كانت تفرض علي اثناء حبسي بالمنزل كان الواقع يكذبها ، فقد جئت من غابة في البراري وولجت غابة في المدينة لا بقاء إلا للعوائل التي لديها مناصب سياسية كنت كالطائر الحالم بالتحليق بعيدا لكن تخذله جناحاته التي لم تنمو بعد ،،، كانت الرؤى أمامي تتكون من جديد عن حقائق ترسخت قديما ، فلا هذا وطني ولا هؤلاء أهلي.
كانت المدرسة عبارة عن ثكنة عسكرية كنت أرى معلمين حاقدين حانقين متمردين يكرهون المكان وهنوده الحمر ، وعبارة الصحراوي “لموسخ” تملأ أذني صباحاً مساءاً حتى إعتدت عليها وصار صداها كصباح الخير ومساء الفل، كان الصباح قارساً ومرعباً والمساء حزيناً كئيباً ، كنا نتعلم ان نكون عبيداً للمعلم والمدير ونتدرب على الأناشيد الوطنية التي حفظنا منها ستين حزباً كاملاً نرددها في الموسم الدراسي أمام عامل المدينة ومسؤوليها بطريقة فلكلورية غريبة وأحيانا كانت تحرك فينا الضحك أكثر ما تحرك فينا الحماسة، كان الناس منقسمين على أنفسهم فالمسؤولون الحكوميين وعوائلهم ينعمون بحياة رغدة وأبنائهم يفعلون ما يحلوا لهم في المدينة ومن فرط الحقد عليهم كنا إذا وجدنا أحدهم ننتزع منه كرته او دراجته وننهال عليه ضرباً وننعته بالخائن لأهله البائع لكرامته المتملق العبد الذليل… الخ من شنيع الأوصاف.
كنا نتغدى في المدرسة بالقيم الوطنية ونتعشى في بيوتنا بقيم الثورة ونلتهم الافكار السياسية المتضاربة فنشأنا على أنفصام فكري وأعتقادي بلور شخصية جيل من المتمردين على التاريخ والواقع، بدأت تدريجيا أستوعب الأمور المحيطة بي المكان والزمان ، علمت أني ولدت وسط الرصاص وأن والدي أستشهد حاملا بندقيته مدافعا عن قيم تربى عليها رفقة جيله، وعلمت أن أمي لم تلبث كثيرا بعد رحيلي عنها أن غادرت هذه الدنيا بعد معاناتها الطويلة رغم حداثة سنها، علمت ايضا ان اخي انتقل الى اسبانيا في اطار عمليات احتضان العوائل الاسبانية لضحايا الحرب.
بدأت حياتي بفراغات نفسية لم يملأها هذا المجتمع الذي يدعي انتسابه الى نبي يتيم فبدأت عندي ثورة الشك في كل شيء، بدأت ألف وضعي الجديد وأحاول أن أنسجم مع الواقع فلا بديل لي عنه فكنت أقضي أوقاتي خارج المدرسة مع أصدقاء الحي ، كانت ألعابنا جلها ذات طابع حربي ويزداد غيظنا على الثقافة الجديدة التي قدمت مع حشود القادمين في المسيرة الخضراء بُعيد خروج المستعمر الاسباني ، الثقافة التي أرادت أن تفرض نفسها علينا بالقوة في المدرسة وفي الشارع وفي المرافق الإدارية ، بدونا وسط بوتقتها أقليةً مغلوب على أمرها ، لم تكن علاقة جيدة على الاطلاق فالحنق الذي كنت إعامل به من طرف المدرسين لايزال يؤثر على نظرتنا ذلك الجيل الضحية.
كنت ارى كيف تقطع المدينة وتوزع ثرواتها على المتملقين من القبائل الذين بمجرد ما تتطور الاحداث السياسية يحربنون جلودهم على لون الدعاية الجديدة ، وحتى اليوم لازالت نفس النغمة هي المتحكمة في ايقاع الاحداث هنا ، هناك من يملك كل شيء ولازال يتملك وهناك من لا يملك شيء ويراد له ان ينتسب الى ارض لم يشاء من تملكها ان تطيقه.


