أرض الحرب الناعمة

الداخلة نيوز: محمد سالم الزاوي

تعيش الصحراء هذه الأيام تراجيديا جديدة تفتح معها جراح سنوات أليمة من النزاعات المسلحة وحمام الدم الذي لازال يلقي بأثاره عليها وعلى ساكنتها التي كتب عليها الشتات في رقعة شطرنج خبيثة محصلتها تنمية مبتورة القوائم وإستقرار مؤجل على مقاس الدول العظمى التي فتحت دكان السمسرة في معاناة الصحراويين فتارة تأخذ أذن المغرب نحو تنازلات موجعة وتارة اخرى تأخذ ثمن التصعيد من الجزائر والحال هو الحال. أفق مسدود ومستقبل مظلم لا يعلم معه القاطن فوق لعنة الصحراء هل سيظل كما هو أم في الأمر تبديل وتجديد.

الصحراء هذه الأيام تفتح أذانها وتتسمر إمعانا في ساعة الحسم التي يبدأ معها طنين المدافع وأجيج الرصاص وهي ساعة تبدأ معها الحرب الخشنة التي تستكمل سنوات من الحرب الناعمة كانت تعيشها ولاتزال هذه الارض الملعونة. فخيار اللاسلم واللاحرب جعلها كالمتردية والنطيحة يفر منها العالم بإستثماراته وشركاته وتذكيتها لا تكاد تجد فتوى جامعة حتى يتفطن العالم لكونها أرضا بلا هوية او هكذا تعمل الجبهة منذ سنوات عند قدوم أي شركة أجنبية.

الحرب الناعمة هي من جعلتنا في ذيل التنمية بتلك الطرقات المقنبلة والبنى التحتية المصوملة. وبباع طويل في تربية بطون الريع وأقلية مستغنية على ظهر غالبية من الجياع لا تتذكر الدولة مواطنتهم إلا عند مواسم الإنتخابات. الحرب الناعمة هي التي حرمتنا طيلة سنوات من أن نعشق الصحراء بهندام التمدن كما ترتديه مدن الدار البيضاء واكادير ومراكش. مدن كاملة الحقوق وليس مدنا ترتدي قشور التمدن وباطنها أقبح من بدائية البداوة.

سنوات من الحرب الناعمة جعلتنا مرهونين بوزارة الداخلية وأختياراتها وتوظيفاتها وولاتها. إذ كفاءاتنا حكر على مكاتبها وشبابنا الذي حالفه الحظ في وظيفة تقيه حر البطالة لا يليق به غير ما تجود به تلك الوزارة من مناصب. سنوات ومدن الصحراء واحة للولاة وأعيانهم وعائلاتهم يفعلون بها ما يشاؤون ويعيثون في مدخراتها بيعا وسمسرة دون ان يجدوا محاسبة او مسائلة، بل إنهم قد يعبثون بأمنها وسلميتها فيخرجون مكرمين منها كسفراء وقناصلة. فالصحراء دوما تكافئ ظالميها ولكم أن تسألوا الداخلة عن من عبثوا بأمنها وبعثروا استقرارها.

الحرب الناعمة هي من قذفتنا على قارعة التهميش نعايش المقاهي وسحنات الشوارع. ونفر من وحش الفراغ نحو شبح المخدرات وبعبع المسكرات علنا ننسى بعضا من جراح واقعنا الاليم. الحرب الناعمة هي من تركتنا رقما اخيرا في معدلات المواطنة وترتيبات “التمغربيت” فلا الدولة تثق فينا ولا المواطنة تليق بنا لنكون وزراء او رؤساء او مستشارين ملكيين. وحتى اولئك المحظوظين برتبة وزير او سفير سيجدون انفسهم في منصب بلا حقيبة يؤثثون المشاهد دون فعالية أو ميزة إضافية. 

الحرب الناعمة كانت ولاتزال قدرنا الذي نتعايش معه كل يوم. نسايره كصديق مقرب رغما عن أنفنا فهو كعدو “المتنبي” ما من صداقته بد. لذا لن تزيدنا الحرب الخشنة والعنيفة إلا قربا منه وتمسكا برفقته. الحرب الناعمة كانت ولاتزال مدرب حياتنا، ذلك الحكيم الذي جعلنا آلات نفاق تبحث عن الغلة جهارا لتسب الملة سرا. جعلتنا أراذل على أبواب الساسة نستجدي “بقعة” أو “كارطية” لنوهم أنفسنا بكرامة العيش ونخادع الدولة والعالم بأننا في نعيم وبأن الحياة أجمل عندنا. الحرب الناعمة وحدها من كشفت حقيقتنا وعرت سوءتنا بأننا قوم يبيعون قناعاتهم بأبخس الأثمان.

إن الحرب العسكرية التي يتحدث عنها الجميع هذه الأيام لم تعد تهمنا لأنها ببساطة إحدى حفرياتنا الذهنية التي نعيش أطوارها كل يوم. فمظاهر العسكرة في مدننا جزء من زخرفة شوارعها ومشاهد العنف والسحل ظلت ولازالت لوحة معتادة عند أقتراب كل أبريل أو لنقل عند خروج أفواج البؤساء طلبا لكرامة العيش الذي يحلمون به. الحرب العسكرية إن وقعت لن تكون إلا شريط الكتابة الذي يعقب نهاية فلم تراجيديا طويلة قوامها المعاناة والخوف والإحساس بالغربة داخل وطن كتب له جشع الإمبريالية أن يكون جمرة أقليمية في خاصرة الشمال الإفريقي.

الصحراء يا سادة دكان حرب مستترة. حرب لا ينقصها غير صوت المدافع لتكتمل صورتها الدموية القاتمة. فالمغرب رغم منجزاته الكثيرة في المنطقة والتي لا يمكن أن نبخسها ثمنها، إلا أنها منجزات متبوعة بتدبير كارثي لازالت المقاربة الامنية شريانه التاجي. ولاتزال خطط وزارة الداخلية وخارطة طريقها أهم أساساته. لاتزال سياسة التهجين ورفض المصالحة مع الصحراويين أبرز فتيل يوقد الحرب الناعمة. أما في المخيمات فقيادة المنحوتات العسكرية لازالت على تعنتها القديم في ضرب أساسات أي تنمية بالمنطقة. ولازالت أسس الدولة التي تمني الصحراويين بها تفتقد لأبسط شروط الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. ولازال حلم الدولة مسمار جحا الذي تعلق على رأسه كل جرائم قادة الرابوني وفسادهم. فالحرب الناعمة بالنسبة لهم تجارة مربحة وأقتصاد لا يبور في ظل مقايضة “المعاناة” في أسواق حقوق الإنسان العالمية.

إن الكلام يطول في إقتفاء ندب الحرب الناعمة. وهي ندب مربحة للجميع، للمغرب الذي يريدها أرضا بلا ساكنة، وللجزائر التي تريدها شوكة في حلق المغرب، ومربح لقيادة الجبهة التي تتجار في معاناة اللاجئين. أما الدول العظمى فتراها سوق عكاظ مربح لكسب التنازلات ولي ذراع المتنازعين دون حاجة لعقوبات رادعة أو دوشة أممية كيف ما كانت.

ختاما ستبقى الحرب الناعمة قدرا يجافي مستقبلنا، ووشما على جبيننا يرفض أن يفارقنا لنعيش في سلام وطمأنينة دون ان يذكرنا أحد بأننا في أرض نزاع توشك المدافع على التحدث في مصيرها.
فهل تفارقنا الحرب بنعومتها وخشونتها على السواء، أم أنها وسم أبدي يلازمنا؟…
للأيام وإن طالت جواب يقين.. فلننتظر.

شاهد أيضا